صلاح الدين عبدو:
السؤال: هل ستهاجر؟
الإجابة السريعة: نعم.
أستطيع الابتعاد عن أيت باها. و عن أصدقائي. أحبّ بيتنا في 'آنوعمران". ولكن إن كان عليّ أن أجيب بصدق ، في هذه الأوقات البائسة ، فسأجيب بأنّي لا أريد السّفر. أحبّ أيت باها .فحبنا للبلدة إحساس داخلي فطري ينمو في أعماقنا ،يزداد تعلقنا بهذا الاحساس كلما كبرنا ،ففي الحياة ما يجعلنا أن نحبها ونقبل عليها بروح متفائلة ، عزمت على كتابة هذا ،مغلقًا أنفي بيدي من رائحة النّفايات التي استقبلتني عند البوابة !، الوضع مقلق غير مريح ، ولكنّي أشعر بالرّاحة ، وأودّ البقاء رغم كل شيء !. ليست أول مرة يُعّكر صفو جوّ المدينة، لكنها ليست أول مرة لا نكترث. ليس لدينا مشكل ربّما ، اعتدنا.
في أيّام كهذه حركة دؤوبة في المدينة كل الطرق تؤدي إلى "تَامازِيرت" . يجمعنا شيء ما: الشوق ـالعودة للأصل.
اللافت في الأمر هو أنّ أسعار الأضاحي حرّكت لسان البلدة أكثر ممّا حرّكته أزمة الجيب ،والبطالة .. ولكن بالحديث عن الهجرة ، الفارق ليس كبيرًا . البلدة معرضة للشتيمة عندما تنقطع الكهرباء في مشاهد لمباراة كرة قدم يحلم بمدرجات الملاعب خارج البلدة . أسباب الهجرة منتشرة في كلّ شارعٍ من شوارع المدينة واضحة للجميع ، ولكن لا شيء كشوارع أيت باها الصامتة ، بعد السابعة مساءاً !.
ضفتي الوادي
سكان "حي أدوز" متعلقون به والآخرون لا يمانعون الانتقال للسكن في "حي الجامع"
إن نزلت الى الشّارع ورحت تسأل المارّة عن أيت باها فكلّ منهم سيصفها بطريقة مختلفة. كلّ منهم سيصف لك مدينة ما. ربما سيصف سكان "الضّاحية المحادية للحي الصناعي" حيًّا تخاله من الفافيلا، أي مدن الصفيح البرازيلية. وروّاد وسط المدينة سيصفون شارعًا يعتقدون زيفاً أنه قلبها النابض. أمّا "قاطني إڭِّي نْ السّوق"، فسيتكلّمون عن شيء مشتق من أحد شوارع باريس الكئيبة والحميمية ،إنه " شارع الحُبّ" ؛ حُبّ منعدم في هذا الركن من المدينة .. مراهقون ،شباب ،يافعات ..، مُحاوَلات عيش لحظات عِشقٍ مسروقة ولو نظرات خوفا من سلطة ثقافة-عقلية سائدة . لا هوية واضحة لأيت باها. أيت باها هي نفسها ولكنها تختلف في عيونهم، من "حي تالعينت" إلى آخر الضواحي، على "أطراف الوادي".
أحدهم يعيش في "حي القصبة" منذ طفولته، موالٍ لأهل الضّاحية ولمكوناتها بكلّ ما للكلمة من معنى. عند سؤاله عن أسعد أوقاته في البلدة يتحدث عن مقهى صغير وورق اللعب. اللاعبون لا يجتمعون بالصدفة، المودة مصطنعة. أحياء المدينة لا تختلف كثيرًا عن بعضها، فالمشهد الّذي وصفه الأول هو نفسه المشهد الّذي وصفه ابن "حي تيبروين" . كلاهما يحبّ الجلوس في المقاهي، والمقاهي دائمًا متواضعة. والأصحاب هم أنفسهم. ثمة كليشيه آخر: ربما الأوّل سيشاهد المنار أمّا الثّاني سيشاهد المستقبل. أضاعوا مدينتهم بين هذا وذاك.
روّاد وسط المدينة مختلفون، أقل ترفاً، أدنى رفاهية أغلبهم من الطبقة الشعبية الكادحة "طالْبِين مْعاشْهم" ،طموحهم أن يحدّثوك عن حياة أفضل ،رغم هذا فَلِسَانُ حالهم لايفارق الحَمْدَلة !. ولكنّ ما يعرفه الجميع في أيت باها أن الطّبقة الوسطى بالكاد موجودة. وبالكاد لزوار وسط المدينة زوار. فمن يملك تقاعداً رغم أن هيآتهم لا يوحين بذلك أو يتقاضى مدخولاً مقبولًا يمكنه التفكير بالتسوق في وسط المدينة أيام الأعياد.. أحد الأشخاص كان يتمنّى أن يتسوّق في وسط المدينة ؛كان الأمر بمثابة الحلم بالنسبة له ، وقد حقّق حلمه بالفعل حين عاد نجله من مدينة من "المغرب النافع" ،جالبا معه رصيدا لا يسمن ولا يغني من أناقة و شياكة حاول التمظهر بها بعد عام شاق مُضن من التعب و العمل في ظروف أكثر مايمكن القول عنها -إنسانية- في أحد متاجر الألبسة هناك.
لأيت باها قصّة مختلفة، فليس لها سكّان محدودون ، لها أهلها ؛ وأهلها هم الجميع. الجميع متعلّق بالرقعة الّتي يعيش فيها ، ولكن الجميع لا يمانع أن ينتقل للسكن في مكان حيث الأفضل.
ما زالت أيت باها مختلفًة رغم اختلافاتها المتكررة عن نفسها إلا أنها ظلت وفية لعقليتها و فكرها السائد -المعوّق- . ثمة من يبيع نبتة الزعتر في وسط الشارع ، ثمة ما يضفي لمسةً قديمةً عليها، كأنّها لم يتغيّر منذ سنين خلت. وهذا اعتقاد خاطئ طبعًا، لكنه بانورامي.
إلى ذلك ، لا نحبها كامرأة تتجرد من ردائها و زينتها الكلاسيكية ،لتلتحف تنورة قصيرة كأنها حداثية متنكرة لخصوصياتها الأصيلة ؛لا نحبّها هكذا مدينة . والحال أنّ أيت باها تتّسع للجميع. فشوارعها ومناطقها مجموعةُ تشكّل بيئة تُلائم شابًّا طائشًا يقود درّاجته النّاريّة بتهوّر أمام الثانوية ،وتلائم مثقّفًا يحبّ 'مطالعة الأفكار' في أكثر المقاهي راحة .. كلّ منطقةٍ في أيت باها فيها قصة. يتوجب عليك المرور في كلّ صوب فيه لتستشف معنى "خليط المشاعر" . صحيح أن ثمة انتشارًا بِطاليّاً.. في كثير من أرجائها ؛وهو مظهر أساسيّ أحيانًا، ولكنّ المفارقة أن النّاس يرحّبون بالفشل كما لو أنّهم اعتادوا واستسلموا للقدر. يتباهى الشباب في الضّاحية بالذّهاب إلى إحدى الحواضر الكبرى، كما لو أنّ من يذهب يرتقي إلى طبقة اجتماعيّة أعلى، وهذا بلا شك سببه الشعور بالحرية، والخروج من الدائرة.
ما يستحقّ البقاء
سألت أحدهم عن سبب بقائه في المدينة. لم يبدأ بالحديث عن العزّة والكرامة والصّمود والكلمات المملّة الّتي تتردّد على ألسنة أهل البلدة يوميًّا ، حتّى لو لم يكن للموضوع صلة بمسائل انتمائية وهوياتية، إلخ إلخ إلخ. أجاب متفاجئًا: "ماشي مهم تسافر". المفاجئ هو أنّ صاحبنا لديه ما يستحقّ البقاء من أجله!، وأمثاله كُثر يعتبرون السؤال عن البقاء من أصله تافهًا .هناك الكثير مما يحملهم على التعلق بالبلدة ويشدهم إليها ،ويجعلهم يخافون من الخروج منها ،ألى وهوصلتهم بمن حولهم وحبهم لهم ؟!،فيكرهوا أن يغادروها لانهم يخشون ألم الفراق وحرارته ،وعندما يفكرون بذواتهم وبأنفسهم يسعون وبشتى الطرق للاستمرار في الحياة ،فيدفعون بأنفسهم للوجود من أجل البقاء ،يتوثبون في نشوة وحماسة فائقة للعيش ،فكيانهم كله إرادة خالصة للحياة، وأن المدينة تبعا لهذا تعد الخير الأسمى مهما يكن من مرارتها واضطرابها، وما في ذاكرتهم من صور مؤلمة من البلدة..فيجدون أنفسهم يتمسكون بها .
أ لهذه الأسباب سافر الّذين يحبّون الحياة. يسافر كلّ الّذين يفكّرون بالمستقبل، غير المتعلقين بالماضي. يسافرون ليغيّروا واقع حياتهم الرّمادي ؟!. القاعدة بسيطة: كلّ من يعاني من شيء في أيت باها ،سيودّ السّفر عاجلًا أم آجلًا، هذه ليست دعوة للهجرة من رقعة تعاني... أي شابّ عشرينيٌّ سيفضّل السّفر على أيّ شيء ، إن لم يكن يعيش حياةً مشجّعة في البلدة. سيوافق على الابتعاد عن أهله بكلّ برودةٍ مقابل السّفر والتّمتّع بحياة أفضل، فهو قد خسر عشرين عامًا من عمره ولا يودّ أن يخسر المزيد، هذا ما يقوله أحد المهاجرين. سيهاجر ،فلا حياة في أيت باها بعد السابعة مساءاً حين يحل الليل و الظلام.
يقول "دَّا مُوحْ" : "لايوجد كَمِثْل أدرار urilla zund adrar " و هو شيخ سبعيني. دَّا مُوحْ لم يرى غير أيت باها -ربما- فما الذي يجعله متأكّدًا إلى هذه الدرجة؟!
ثمة قاعدة تقول :"أنه كلّما زاد وقت البقاء في مكان ما سيزداد تعلّق الإنسان به تدريجيًّا" ، فسجين العشرين عامًا الّذي خرج من السّجن أخيرًا، سيشتاق لسريره المعتاد في أوّل ليلة له في المنزل. وهذه القاعدة تنطبق على الجميع.
الشيخ شهد أفراح ومآسي البلدة منذ أربعة وخمسين عامًا. شاهد سنوات الرصاص والمجاعة و...، ورغم كلّ ما حصل لم تطأ رجله أرضًا خارج الحدود. يحتسي الحساء كلّ صباحٍ على نفس الكرسيّ في بيته، يرفض السّفر رفضًا قاطعًا ويقول "أدرار جنة". الشيخ لم يرى غير أيت باها ربما ،فما الّذي يجعله متأكّدًا إلى هذه الدرجة؟! لقد اعتاد على المكان البسيط، ولم يخرج منه ليرى إن كان هناك مكان أبسط في قُطْرٍ ما . تعلّق بثيابه الرّخيصة ومن الصّعب عليه خلعها واستبدال ملابس مختلفة بها . يخاف من الجديد، ومن الغربة . فهو يعلم أن 'أيت باها' ليس رائعًا، وليس "ميونيخ أو باريس أدرار"، بل لأنّه وطن يحمل الذّكريات الدّافئة، وكلّ من يصنع ذكرياتٍ أكثر، يمكث هنا أكثر.
